جاء «أثر الفراشة» بصدوره الأول يحمل بعضاً من محمود درويش، وصايا التنبؤ لغدِهِ وماضيه الذي ما زال يتمرحل، فراشة محمود معلقة محفوظة مرئية لمن يريد أن يكتب ويقرأ في تأويل الكتابة، ويقول في نص قصيدته إجازة قصيرة: «صدَّقت أني مِتُّ يوم السبت، قلتُ علي أن أوصي بشيءٍ ما، فلم أعثر على شيءٍ، وقلتُ: عليّ أن أدعو صديقاً ما لأخبره بأني مِتُّ لكن لم أجد أحداً»، الغريب في الأمر رحيل درويش في التاسع من آب (أغسطس) الموافق يوم السبت أو بفارق يوم تجهيز الجنازة، تاركاً وصاياه بلا وصيةٍ وأسرار..! رحل وهو المفتوح كبستان اللغة على الكتابة بانتزاع الفكرة من محيط الوحدة ومطاردة فكرة الموت رغم اليقين وتعدد الفكرة ذاتها في قصائده ونثره ورسائله إلى رفيق عمره الأقرب سميح القاسم، وفي ما تبقى من قصيدته الخالية من المصادفة مع الآخر، وهنا يخلو التعليل والاحتمال في الكتابة مما يمكن أن يشتق من مختبرات التحليل والتفسير والكشف عن حياته التي ما من شكٍّ أن درويش بإقامته بين الأصدقاء والناس وساعات العزلة المؤتمنة على تذكر الكلام الذي لم يقله في لحظات النسيان: «لي طفلة، أنا أب». مختصر ما جاء به حديث الروائي الحاضر بلغته البارعة وصداقته المعروفة بمحمود درويش، بالوقوف على ماهية المقال المبني على ساقٍ واحدةٍ من الفنيات اللغوية الرصينة، يبنيها الكاتب مُنْذ البداية بمفردات نصٍّ في حدود المساحة المسموح بها للمقال ليضع السر بكلماته الأربع وفاصلةٍ واحدةٍ تقول «لكن لا شيء فيَّ يشدني إلى أبوةٍ» ثم يقول: «أنا لم أسأله من تكون أم طفلته» الحوار غير خاضع للفهم والتحليل وفق وصف الكاتب سليم بركات لواقعية ما حدث بينه وبين درويش وفق قوله، وهل أصلاً سرٌ كهذا لشاعرٍ مرَّ من البلاد إلى كل البلاد تعرفه أطفال اليوم الناشئة كما يعرفه الآخرون، في المقال أيضاً سدَّ ثغرة السؤال ولا يحدث أن تسأل لماذا لم يسأله عن أم الطفلة واسم الطفلة. يذكر أيضاً بركات في سياق مقالته «ذاكرة للنسيان» وفي ذات الذاكرة التي تركها محمود بلغةٍ مفعمَةٍ بالإنسانية المتجردة من السؤال عن المصير والهوية التعريفية يقول في تحضيره: «وأنا بلا زوجةٍ وبلا ولدٍ، فذلك يوفِّر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدورٍ حزينٍ لا ينتهي إلا بحنو الأرملة على المغزى»، ذات الأنا التي لم يسأل عنها بركات يُجيبها محمود، في فصول الذاكرة الصالحة للنسيان والتذكر. في نقاشٍ مع الشاعر والمترجم التونسي عبد الوهاب الملوح على ما جاء في نص سليم بركات، يقول: «لمقالة بركات هندسة داخلية كما هو الشأن في كتاباته عموماً، لقد ذكر أيضاً كتاب ذاكرة للنسيان وفي هذا الكتاب ذكر درويش أعمالاً أعتقد لو ذُكِرَت الآن لتم تصنيفها من الكبائر، علماً وأن سليم لأول مرةٍ يذكر ذلك الذي يتحدث به عن حوافّ النص بعيداً عن سيرة الكتاب على وصف رولان بارت، فقط هكذا يبدو سليم بركات خائناً للسر ومحمود درويش خائناً للأبوة». في مثل هذه الكتابات التي تخلو من الفكرة الأدبية التي يمكن تنسيبها للمذكرات والسّيَر الذاتية، يفسر بول فاليري بنوع التفكيك لإدراك العلاقة بين النص والسياق من وراء المعنى في نوعية هذه الكتابة شارحاً: «لم أشهد قط غياباً للاضطراب والشكوك سوى ألا يناور الكاتب وألا يكون النص عرضةً للمناورة منحصرا بين الممكن والمستحيل وما بين المعروف والمجهول، والمجهول هنا قاعدةٌ للاسترداد في تمكين المستحيل إلى أن يسمع نفسه بين الكتابات الشارحة في نثر درويش وحياته برباعية الجمهور والوطن والمنفى والأصدقاء، في هذه المفارقة المكتوبة لاختراع الأنساق حتماً تعود ذاكرة القارىء لنصوص درويش وحياته المسكوبة على القصيدة التي عاش من أجلها، وهي ابنته الشرعية من ضلوع ذلك المنفي حتى في وطنه»، ويقول شاعر الفراشة في نهاية سكوغوس: «إذا اجتمعت في يد قصيدة تؤكل ولا تتحمل خللاً في التوازن بين العناصر، وسليم بركات لا يتحمل الثناء منذ صار سريع البكاء».